غالبًا ما يُصور أينشتاين كعالم مجنون تكهن بأفكار غريبة. ولكن في الواقع، كل تنبؤ من تنبؤات نظرياته النسبية قد تحول إلى دليل ملموس وُجد في مختبراتنا وسماءنا وحتى في هواتفنا. لنفصل الأدلة حسب النظرية التي تثبتها.
أولاً: أدلة على صحة النسبية الخاصة (Special Relativity)
تتعلق هذه النظرية بالأجسام التي تتحرك بسرعات ثابتة وعالية جدًا، وأهم أدلتها:
- تجربة الساعات الذرية الطائرة (تمدد الزمن)
- في عام 1971، طار العلماء بساعات ذرية فائقة الدقة على متن طائرات حول العالم وقارنوها بساعات ثابتة على الأرض.
- النتيجة: تأخرت الساعات المتحركة على الطائرات بفارق ضئيل (نانوثانية) لكنه مطابق تمامًا لحسابات أينشتاين. السرعة العالية جعلت الزمن عليها يمتد ويبطئ.
- مسرعات الجسيمات (تزايد الكتلة)
- في مصادم الهادرونات الكبير (LHC)، تُسَرَّع البروتونات إلى 99.99% من سرعة الضوء.
- النتيجة: تزيد كتلة هذه الجسيمات آلاف المرات، مما يتطلب طاقة هائلة لمواصلة تسريعها. بدون معادلات النسبية الخاصة، ستفشل كل حسابات تصميم هذه المعجلات.
- توليد المادة من الطاقة (E=mc²)
- في مسرعات الجسيمات، يصطدم شعاعان من الطاقة العالية.
- النتيجة: تتحول طاقة التصادم إلى جسيمات مادية جديدة، وهو تحويل مباشر للطاقة إلى كتلة كما تنص المعادلة الأشهر.
ثانيًا: أدلة على صحة النسبية العامة (General Relativity)
تتعلق هذه النظرية بالجاذبية والتسارع وتبني على سابقتها، وأهم أدلتها:
- الحل الشذوذ في مدار عطارد
- كان لمدار كوكب عطارد شذوذ صغير لم تستطع قوانين نيوتن تفسيره.
- النتيجة: حساب أينشتان – باستخدام معادلات النسبية العامة لانحناء الزمكان حول الشمس – تنبأ بدقة تامة بمدار عطورد كما نرصده.
- انحناء الضوء قرب الشمس
- الفكرة الأساسية: الجاذبية تنحني الضوء
- قبل أينشتاين، كان الاعتقاد أن الضوء يسير في خطوط مستقيمة فقط. لكن النسبية العامة قدمت فكرة ثورية: الكتلة الكبيرة (مثل الشمس) تُحدِث انبعاجًا أو “انحناء” في نسيج الزمكان حولها. وبما أن الضوء يسير على هذا النسيج المنحني، فإن مساره سينحني هو الآخر عند المرور قرب كتلة كبيرة.
- كيف أجريت التجربة؟
- الحدث المثالي: كسوف الشمس الكلي
لم يكن من الممكن رؤية النجوم قرب الشمس في الظروف العادية بسبب وهجها الساحق. لكن خلال كسوف الشمس الكلي، يحجب القمر ضوء الشمس تمامًا، فتنقلب “النهار إلى ليل” لدقائق معدودة، مما يتيح للعلماء رؤية النجوم التي تظهر في السماء حول الشمس المخفية. - الخطة الذكية: مقارنة صورتين
- التقط العلماء أول صورة لتلك النجوم في الليل (عندما تكون الشمس في مكان آخر من السماء وليس قريبًا منها). هذه هي “الصورة المرجعية” التي توضح الموقع الحقيقي للنجوم.
- ثم انتظروا حتى كسوف الشمس في 29 مايو 1919، والتقطوا الصورة الثانية للنجوم نفسها وهي تظهر قرب حافة الشمس المظلمة.
- المقارنة والنتيجة المذهلة
عندما قارنوا الصورتين، وجدوا أن مواقع النجوم في صورة الكسوف قد انزاحت قليلًا مقارنة بمواقعها الحقيقية في الصورة المرجعية. كان الأمر يبدو كما لو أن الشمس قد “جذبت” ضوء هذه النجوم نحوها، مما جعلها تظهر في موقع غير موقعها الحقيقي. - لماذا تعتبر هذه النتيجة دليلاً حاسماً؟
- التنبؤ والدقة: تنبأ أينشتاين رياضيا بالزاوية الدقيقة التي سينحني بها الضوء 1.75 ثانية قوسية (1.75 arcsecond). كانت نتائج الرصد قريبة جدًا من تنبؤاته، مما أعطى مصداقية هائلة لنظريته.
- الضربة القاضية لنموذج نيوتن: كانت نظرية نيوتن للجاذبية تتوقع أيضًا انحناءً للضوء، لكن بنسبة نصف ما توقعه أينشتاين فقط. أثبتت القياسات أن أينشتاين كان على حق.
- الانزياح الأحمر الجذبوي (Gravitational Redshift)
- الضوء الذي يهرب من حقل جذبوي قوي (مثل نجم كثيف) يفقد الطاقة.
- النتيجة: هذا الفقدان في الطاقة يظهر على شكل الانزياح نحو اللون الأحمر في الطيف الضوئي، وتم قياسه بدقة في تجارب عديدة.
- اكتشاف الموجات الجذبوية (Gravitational Waves)
- في عام 2015، رصد مرصد LIGO تموجات في نسيج الزمكان.
- النتيجة: هذه التموجات نتجت عن اصطدام ثقبين أسودين بعيدين، وهي تنبؤ أساسي للنسبية العامة، مما أكد النظرية بأقصى درجات الدقة.
التطبيق الأكثر وضوحًا: نظام GPS (يجمع بين النظريتين)
- النسبية الخاصة: ساعات الأقمار الصناعية تتحرك بسرعة 14,000 كم/ساعة، مما يجعلها تتأخر حوالي 7 ميكروثانية يوميًا.
- النسبية العامة: لأن الجاذبية أضعف في المدار المرتفع، فإن ساعات الأقمار الصناعية تتقدم حوالي 45 ميكروثانية يوميًا.
- النتيجة: فرق تراكمي قدره 38 ميكروثانية يوميًا. إذا لم تصحح برامج GPS هذا الفرق النسبوي، سيتزحلف موقعك على الخريطة بمقدار حوالي 10 كيلومترات يوميًا!
الخلاصة: لم تعد النسبية نظرية مجردة. إنها إطار علمي دقيق تحول إلى أدلة قاطعة، من أصغر الجسيمات إلى اصطدام الثقوب السوداء، وهو ما يثبت أن كوننا يعمل حقًا وفقًا لقواعد أينشتاين العبقرية.